الأقصى في خطر- فتور ردود الفعل يشجع التطرف الإسرائيلي.

المؤلف: د. عمار علي حسن09.01.2025
الأقصى في خطر- فتور ردود الفعل يشجع التطرف الإسرائيلي.

في الذكرى الثامنة والخمسين للاستيلاء الإسرائيلي على القدس الشريف، شهد المسجد الأقصى المبارك اقتحامًا مدنسًا من قبل وزراء متطرفين في حكومة بنيامين نتنياهو، وأعضاء متزمتين في الكنيست، وحشودًا غفيرة من المستوطنين المتطرفين، وعلى رأسهم وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير سيئ السمعة. ومع ذلك، فإن ردود الفعل في العالمين العربي والإسلامي، من أقصى المغرب إلى سهول أواسط آسيا، لم ترتقِ إلى مستوى خطورة هذا التعدي السافر على حرمة المقدسات الإسلامية.

إن المتأمل في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي يدرك تمام الإدراك أن قضية المسجد الأقصى لطالما احتلت مكانة مرموقة واستثنائية، وحافظت على حساسية بالغة. وقد فطنت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لهذا الأمر، وتجنبت باستمرار اتخاذ أي إجراءات من شأنها أن تستفز جموع المسلمين، أو تدفعهم إلى الالتفاف حول القضية الفلسطينية، الأمر الذي يتعارض مع مساعي تل أبيب الدؤوبة لفرض قيود وعراقيل تعزل الفلسطينيين عن عمقهم العربي والإسلامي. بل وحتى لا تثير غضب الفلسطينيين أنفسهم، الذين يحملون على عاتقهم مسؤولية الدفاع عن المسجد الأقصى بحكم الجغرافيا والتاريخ والسياسة.

قبل ما يقارب ربع قرن من الزمان، اختبرت إسرائيل مدى صلابة هذه المعادلة، وتحديدًا في يوم الخميس الموافق 28 سبتمبر/أيلول 2000، حين اقتحم أرييل شارون، زعيم حزب الليكود آنذاك، ساحات المسجد الأقصى محاطًا بحراسة مشددة قوامها ثلاثة آلاف من شرطة الاحتلال والمخابرات والحرس، وبموافقة رئيس الوزراء إيهود باراك. فتصدى له جموع المصلين الغاضبين، خاصة بعد إعلانه المشؤوم أن الحرم القدسي سيبقى منطقة إسرائيلية. وقد استشهد في ذلك اليوم سبعة فلسطينيين وأصيب 250 آخرون بجروح، كما أصيب 13 جنديًا إسرائيليًا، وكانت تلك الشرارة التي أطلقت فتيل الانتفاضة الفلسطينية العارمة.

لم يتوانَ الفلسطينيون في الرد على فعلة شارون الشنيعة، رغم مرور أسبوعين فقط على جولة مفاوضات عقدت في منتجع "كامب ديفيد" بدعوة من الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، وبمشاركة رئيس الوزراء الإسرائيلي باراك، والرئيس ياسر عرفات. وقد رفض عرفات آنذاك تقديم أي تنازلات من شأنها أن تفضي إلى التوقيع على اتفاقية ترسم معالم الدولة الفلسطينية المستقبلية، ثم انخرط في دعم الانتفاضة الشعبية الفلسطينية التي أطلق عليها "انتفاضة الأقصى".

استمرت هذه الانتفاضة قرابة عشرين شهرًا، وشهدت مواجهات واشتباكات متواصلة بين الفلسطينيين وقوات الاحتلال الإسرائيلي، وتصاعدت وتيرة الأعمال العسكرية بين الفصائل الفلسطينية والجيش الإسرائيلي، حيث شنت الفصائل الفلسطينية هجمات داخل المدن الإسرائيلية، وقامت بتفجير مطاعم وحافلات.

وقد أسفرت هذه الانتفاضة عن استشهاد ما يقرب من 4.500 فلسطيني، وإصابة أكثر من 50 ألفًا بجروح، بينما قتل من الإسرائيليين 1.100 شخص، بينهم ثلاثمئة جندي، وجرح 4.500 آخرون.

وتجاوب الشارع العربي والإسلامي بحماس مع المنتفضين، فخرجت مظاهرات حاشدة في مدن عديدة، وتوالت المواقف الرسمية المتضامنة مع الحق الفلسطيني، في صورة بيانات وتصريحات ولقاءات واجتماعات وقمم عربية، خاطبها عرفات من مقر حصاره في المقاطعة برام الله. وتحول الطفل الفلسطيني محمد الدرة، الذي استشهد في حضن والده، إلى أيقونة عالمية تجسد مأساة الشعب الفلسطيني.

واليوم، وعلى الرغم من تزامن اقتحام الأقصى مع استمرار "الإبادة الجماعية" في غزة، لم نشهد رد فعل قويًا على هذه الواقعة النكراء، ولم نسمع اعتراضًا واسعًا يتناسب مع ما أقدم عليه بن غفير، خاصة مع التحدي السافر الذي أظهره، حيث وقف في باحات الأقصى، وخلفه يظهر مسجد قبة الصخرة المشرفة، وتحدث بوقاحة عن صعوده إلى "جبل الهيكل" المزعوم، وزعم أنه صلى "من أجل النصر في الحرب، وعودة جميع الأسرى، ومن أجل نجاح رئيس جهاز الشاباك الجديد ديفيد زيني"، فيما أسماه "يوم توحيد القدس".

وتزامن هذا مع حديث نتنياهو الوقح والصريح عن رغبته الجامحة في ضم القدس، والحصول على تأييد دولي لهذه الخطوة، وذلك بعد أن عقدت الحكومة الإسرائيلية جلستها الأسبوعية في حي سلوان الفلسطيني بالقدس الشرقية المحتلة، والذي تسميه إسرائيل بـ "مدينة داود"، ويديره مستوطنون متطرفون، وسط مسيرة أعلام شارك فيها عشرات الآلاف من الإسرائيليين.

وقد أدانت المملكة الأردنية الهاشمية هذا الحدث بشدة، ووصفته بـ "الممارسات الاستفزازية المرفوضة"، وكذلك فعلت وزارة الخارجية والمغتربين الفلسطينية، التي ربطت بين ما أقدم عليه بن غفير وبين ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من "إبادة وتهجير وتهويد وضم".

وخرجت إدانات خجولة أخرى من بعض الدول العربية، لكن كل هذا لا يرقى بحال من الأحوال إلى مستوى خطورة ما جرى، ولا يضاهي أي رد فعل سابق على محاولات إسرائيل المتكررة لاختبار الموقف العربي والإسلامي من قضية القدس عمومًا، والمسجد الأقصى على وجه الخصوص.

ويُعزى هذا الضعف والفتور في رد الفعل إلى عدة أسباب وعوامل مختلفة، يمكن استعراضها على النحو التالي:

أولًا: حالة الاعتياد والتطبيع التي أصابت جموع العرب والمسلمين تجاه ما يحدث للشعب الفلسطيني، وذلك نتيجة لاستمرار حرب "طوفان الأقصى" لما يقارب العشرين شهرًا، الأمر الذي جعل الكثيرين يرون أن ما أقدم عليه بن غفير يبدو قليلًا، على الرغم من رمزيته الخطيرة، مقارنة بما يجري في قطاع غزة من قتل وتدمير ممنهج.

وثانيًا: القيود المفروضة على أغلب الشعوب في العالمين العربي والإسلامي والتي تحد من قدرتهم على نصرة الشعب الفلسطيني قولًا وفعلًا، وذلك من قبل سلطات سياسية تخشى من أن يؤثر التعاطف الشعبي مع القضية الفلسطينية على استقرارها وشرعيتها. فضلًا عن اتجاه كثير من هذه السلطات إلى تبني رؤية مختلفة، وانتهاج مقاربة مغايرة، للتعامل مع القضية الفلسطينية، غير تلك التي تم تبنيها لعقود طويلة من الزمن.

وثالثًا: الأثر السلبي المدمر للانهيارات السياسية والاقتصادية التي عصفت بالعديد من البلدان العربية، والتي كانت حكوماتها وشعوبها تنظر في السابق إلى فلسطين بوصفها "قضية العرب المركزية"، وتعتبر الصراع بأنه عربي إسرائيلي، وليس فلسطينيًا إسرائيليًا فحسب.

واليوم، تغرق شعوب هذه الدول في مشاكلها الداخلية المعقدة، باحثة عن أي سبيل للخلاص يعيد التماسك إلى بلدانها المضطربة، وينقذها من التفكك والانقسام، أو يخفف من وطأة الفقر المدقع الذي تعاني منه، وهو وضع بائس استنزف جزءًا كبيرًا من طاقة الناس في محاولات يائسة لحل مشاكلهم الشخصية، ولم يعد لديهم، على ما يبدو، فائض من القوة، ليمنحوه لفلسطين، ولو من باب الاحتجاج السلمي.

وأخيرًا: فقدان الأمل في إمكانية أن يؤدي أي احتجاج إلى ثني حكومة نتنياهو المتطرفة عن تصرفاتها الرعناء، سواء ضد أهل غزة والضفة الغربية، أو في تنصلها من جميع الاتفاقات السابقة مع الفلسطينيين وفق "أوسلو" وما تبعها من اتفاقات حول "الحل النهائي"، أو حتى وفق أي اتفاقات وقوانين دولية حول الصراع العربي الإسرائيلي برمته.

وهناك سبب خامس يتعلق بالشعب الفلسطيني نفسه، الذي أنهكته المعارك الطويلة، ولا يزال يعاني من انقسام عميق حيال مقاربة ومعالجة تداعيات حرب "طوفان الأقصى"، أو ما يتعلق بترتيبات ما بعد توقف هذه الحرب، بل إن بوادر ذلك لا تلوح في الأفق، ولا يملك أحد يقينًا بقرب حدوثه، في ظل إصرار نتنياهو على مواصلة القتال.

إن غياب رد الفعل العربي والإسلامي الذي يتناسب مع خطورة ما فعله بن غفير ومن معه، يعني ببساطة أن الحكومة الإسرائيلية الحالية، وعلى عكس جميع الحكومات السابقة، قد كسرت الحاجز النفسي والسياسي الذي كان يمنعها من الاقتراب بهذا الشكل السافر والمهين من المسجد الأقصى، وقد يشجعها هذا، للأسف الشديد، على الانتقال إلى خطوات لاحقة أكثر خطورة، يتحدث عنها بعض المتطرفين اليهود حول هدم المسجد الأقصى بالكامل، وبناء الهيكل المزعوم، وفق تصورات وأوهام دينية يؤمنون بها.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة